الجمعة، 25 يونيو 2010

السياسة النقدية... وبرنامج الإصلاح Monetary policy in Yemen

تحتل السياسة النقدية مكان الصدارة في هيكل السياسات الاقتصادية الكلية منذ وقت طويل فقد أثبتت الكثير من المدارس الاقتصادية ذلك، فقد كانت الأداة الرئيسية التي تمكن الدولة من إدارة النشاط الاقتصادي، وعبر التاريخ لعبت السياسة النقدية دوراً مهماً وبارزاً في تحقيق النهضة الاقتصادية في كثير من الدول المتقدمة، كما تعتبر السياسة النقدية محور السياسة الاقتصادية الكلية، والبنك المركزي هو الجهة المخولة لإدارتها.

لعلي أحد من المناسب عند استعراض السياسة النقدية وبرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بداء تنفيذه في مارس 1995م، أن نعود قليلاً إلى الوراء بسرد مقتضب للفترة من 1990 – 1994م، فقد واجهت اليمن ومنذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي متغيرات غير متوقعة من خلال عاملين رئيسيين تمثلا في إعادة توحيد شطري اليمن وتحقيق الوحدة اليمنية المباركة في يوم 22 مايو 1990 وما ترتب عليه من دمج نظامين اقتصاديين مختلفين (نظام رأسمالي في الشمال ونظام اشتراك في الجنوب) وما رافق ذلك من أزمات أثرت على مسار التنمية وعطلت السياسات الاقتصادية ومنها السياسة النقدية، كما أثرت حرب الخليج الثانية (90-1991) والتي نتج عنها عودة حوالي 800 ألف مغترب يمني من دول الخليج العربي، وتعليق هذه الدول وغيرها العون الخارجي لليمن. وقد ترتب على ذلك صعوبات اقتصادية جرّت اليمن إلى حافة الهاوية، وقد تأثر القطاع المصرفي وسياساته بالتبعية بشكل كبير. وما تحملته دولة الوحدة من أعباء القروض الخارجية فقد وصلت القروض الروسية فقط إلى ما يزيد عن 7 مليار دولار، بالإضافة مديونية أخرى بحوالي 4 مليار دولار.

فقد وقف البنك المركزي اليمني في هذه المرحلة موقف المتفرج ومكبل اليدين ولم يتخذ أي إجراءات تجاه الاختلالات الكبيرة التي كان يمر بها الاقتصاد اليمني ومنها الارتفاع الكبير في عجز الموازنة الذي وصل إلى 22% من الناتج المحلي الإجمالي، يمول كله من الإصدار النقدي الجديد مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم الذي وصلت إلى 100% وعدم السيطرة على العرض النقدي، الذي تفاقم في تلك الفترة، ومن الاختلالات أيضاً تعدد أسعار الصرف والتي وصلت إلى خمسة أسعار منها ما هو رسمي ومنها ما هو متروك للسوق، والتباين الشديد بينها فقد كان سعر الصرف الرسمي 12 ريال لكل دولار، في حين وصل سعر الصرف في السوق الموازي ما يزيد عن 130 ريال لكل دولار، والقطاع المصرفي لم يكن أحسن حالاً، فقد كان وضع البنوك الحكومية صعب للغاية لارتفاع القروض المتعثرة، فقد أوضحت بعثة صندوق النقد الدولي إنه في حالة وضعت بنوك القطاع العام والمختلطة مخصصات للقروض المشكوك في تحصيلها فإن هذه المخصصات ستفوق وتمحو رأس المال والاحتياطيات، وهذا ما كان يخشاه راسمو السياسة النقدية. ومن المناسب عرض بعض المؤشرات في ذلك الوقت، فقد بلغت إجمالي الودائع في القطاع المصرفي حوالي 50 مليار ريال، كما بلغت القروض والسلفيات 17 مليار ريال عام 1994م، في حين بلغ إجمالي رؤوس أموال القطاع المصرفي والاحتياطيات حوالي 3 مليار ريال عام 1994م، كما لم تتجاوز عدد البنوك العاملة في اليمن 12 بنك (تجاري ومتخصص)، وهذا يعكس ما وصلت إليه الأوضاع الاقتصادي في البلاد أنا ذاك.

بعد خروج اليمن من حرب الانفصال في صيف 1994م، فقد أخذت الحكومة اليمنية على عاتقها الإصلاح والنهوض بالاقتصاد، فقد عملت على تبني برنامج إصلاح اقتصادي ومالي وإداري شامل بمساعدة المنظمات والمجتمع الدولي وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومن جهته عمل البنك المركزي على إصلاح و تطوير سياساته النقدية فقد استخدام الأدوات النقدية المباشرة والغير مباشرة في إدارة السياسة النقدية، بإصدار أذون الخزانة نيابة عن الحكومة كوسيلة لامتصاص فائض السيولة وإعادة توجيهها نحو تمويل العجز في الموازنة العامة للدولة، باعتبار أذون الخزانة من الأدوات الغير تضخمية في تمويل عجز الموازنة بدلاً من تمويلها من خلال الإصدار النقدي الجديد أو الاقتراض الخارجي التي يحمل البلاد أعباء كبيرة، كما عمل على تحرير أسعار الفائدة المدينة ورفع وتحريك فوائد الإيداع التأشيرية ما بين 25-27% في عام 1996م، ومن أهم السياسات النقدية التي اتخذها البنك هو تعويم سعر صرف الريال مقابل العملات الأجنبية وإخضاعه لآلية السوق Free Floating Exchange Rate، فقد أتت هذه السياسات أكلها من خلال تحسن المؤشرات ومن أهمها، انخفاض التضخم من 73% في عام 1994م إلى 27% في عام 1996م، و انخفاض نمو العرض النقدي العريض من 35% في عام 1994م إلى 9% عام 1996م، كما استقر سعر الصرف في السوق ما بين 125-130 ريال لكل دولار، في حين وصل سعر الصرف إلى 160 ريال لكل دولار في منتصف عام 1995م ، أما ما يخص الودائع لدى القطاع المصرفي فقد ارتفعت إلى 120 مليار في عام 1996م، في حين لم تتجاوز 50 مليار في عام 1994م، كما ارتفعت السلفيات والقروض الممنوحة لقطاع الأعمال والأفراد من 17 مليار عام 1994 إلى 31 مليار ريال، وهذا يرجع إلى زيادة الثقة بالقطاع المصرفي.

مثلت الفترة من 1998 إلى 2006م الفترة الحقيقية التي وضعت البنك المركزي اليمني والقطاع المصرفي على نهج الإصلاح والنمو، فيمكننا من خلال التحليل الدقيق الموضح بالأرقام والمؤشرات ملاحظة الإصلاحات والتطورات التي شهدتها السياسات النقدية والقطاع المصرفي لهذه الفترة:-

تطورت البيئة القانونية للسياسة النقدية والقطاع المصرفي من خلال إصدار منظومة متكاملة من التشريعات والقوانين المنظمة لعملها وجعلها قادرة على مواكبة المتطلبات والتطورات التحديات والمحلية والأقليمية والدولية التي تواجهها ، وكان أولها إصدار قانون تنظيم أعمال الصرافة رقم (20) لسنة 1995م، يليها قانون البنوك التجارية رقم (38) لسنة 1998م، ومن ثم تم إصدار قانون البنك المركزي اليمني رقم (14) لسنة 2000م الذي منح البنك المركزي اليمني بموجبه الاستقلالية التامة، ونظم علاقته مع الحكومة، ومنحه التخويل الكامل لرسم وتنفيذ السياسة النقدية، بهدف تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي من خلال استقرار الأسعار والمحافظة على نظام سعر صرف يتلاءم مع حاجات الاقتصاد والمساعدة في توفير السيولة توجيه الائتمان إلى الاستخدامات الأكثر إنتاجية، والمساعدة على الحفاظ على عمالة كاملة وتوازن داخلي وخارجي، ولمواكبة متطلبات التحديث والتطوير ومقتضيات العولمة والانضمام إلى المنظمات الدولية فقد أصدر البنك المركزي قانون مكافحة غسل الأموال رقم (35) لسنة 2003م وقانون العمليات المصرفية الالكترونية رقم (40) لسنة 2006م، وقانون التأجير التمويلي رقم (11) لسنة 2007م، كما قام البنك المركزي بإعداد قانون مؤسسة ضمان الودائع المصرفية وهو الآن أمام مجلس النواب، ولم يقف البنك المركزي عند هذا الحد فهو يسعى دائماً إلى تحديث منظمومته القانونية فقد قدم مشروع تعديل قانون المصارف الإسلامية وهو الآن معروض على مجلس النواب، كما يعد مشروع تعديل لقانون مكافحة غسل الأموال.

كما طور البنك المركزي اليمني أدواته فقد استحدث في عام 1999م وسيلة جديد لامتصاص فائض السيولة وهي اتفاقيات إعادة الشراء (REPO) استطاع البنك المركزي من خلال هذه الأداة إضفاء مرونة أكبر على تداول أذون الخزانة وزيادة حجم التعامل بها وتفعيل حركة تداولها.

ولمواكبة التطور ومتطلبات السوق ولتحقيق الاستقرار فقد استخدم البنك المركزي أداة جديدة في امتصاص فائض السيولة من السوق، وكانت الأداة الجديدة هي شهادات الإيداع Certificate of Deposits وقد حققت هذه الأداة نجاح كبير في امتصاص فائض السيولة لدى القطاع المصرفي وتحقيق فرص أفضل للمصارف لتوظيف فوائضها بدلاً من التوجه للمضاربة في سوق الصرف، مع أن البنك المركزي اليمني تبنى سعر الصرف الحر (تعويم سعر الصرف) فقد استطاع الريال اليمني المحافظة على استقراره النسبي خلال الفترة رغم الضغوط التضخمية الكبيرة التي لقيها، ومن أجل تحقيق ذلك الاستقرار فقد قام البنك المركزي بالتدخل لتغطية الفجوة المؤقتة بين الطلب والعرض فقد تدخل بائعاً خلال الفترة من 2000 وحتى اغسطس 2007م بما يزيد عن 5691 مليون دولار.

وبما أن من واجب البنك المركزي اليمني إدارة التضخم فقد عمل على كبح جماحه الذي وصل مستوى مرتفع جداً خلال الفترة من 90-1994م فقد بلغ 73- 100% وفي نفس الفترة كانت فوائد الإيداع تتراوح ما بين 10 - 15% والفوائد على القروض والتسهيلات وصلت إلى 17%، وهذا أدى إلى أن تكون الفائدة الحقيقية على الودائع سالبه الأمر إلى أدى بأصحاب الفوائض المالية إلى البحث عن وسائل استثمارية أكثر ربحية فقد توجهوا إلى شراء العملات الأجنبية واكتناز الذهب والمضاربة بالعقارات، لهذا قام البنك المركزي خلال الفترة 1995-2004 م باستخدام أحد أدواته وهي سعر الفائدة فقد قام بتحريكها صعوداً وهبوطاً بحسب الظروف والمتطلبات إلى أن استطاع أن يكبح جماح التضخم عند مستويات قابلة للسيطرة، إلى أن استقرت عند 13% إلى يومنا هذا.

ومن الملاحظ بأن هناك من يدعوا إلى تحرير سعر الفائدة من أجل تحفيز الاستثمار، وهذا في اعتقادي بأنه صحيح إذا ما تم في اقتصادي يتميز بالكفاءة، وليس في الاقتصاد اليمني وبالأخص حالياً والذي يستدعي من البنك المركزي الحذر الشديد والموازنة الدقيقة بين المتغيرات الاقتصادية بما يحقق استقرار اسعار الصرف والحد من التضخم وهي معادلة معقدة وليست سهلة، والجدير بالذكر بأن الاستثمار في اليمن لا يتأثر بشكل كبير بأسعار الفائدة، أي أنه ليس هناك مرونة بين الاستثمار وسعر الفائدة، وأن القطاع الإنتاجي للجمهورية اليمنية غير مرن لتغطية فائض الطلب الناتج عن انخفاض سعر الفائدة، وفي حالة تخفيض سعر الفائدة سوف يتوجه أصحاب الفوائض المالية إلى المضاربة من جديد في العقارات والأراضي وحفظ العملات الأجنبية واقتناء الذهب ويؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم من جديد، فالقرار يحتاج إلى الكثير من الدراسة والبحث.

ولتحقيق الاستقرار الخارجي فقد عمل البنك المركزي على تكوين احتياطياته الخارجية فقد تضاعفت من 386 مليون دولار عام 1998 م والتي كانت تغطي واردات اليمن لأربعة أشهر إلى 7609 مليون دولار عام 2006م وكافية لتغطية واردات اليمن لمدة 14 شهراً, مع العلم بأن حجم الاحتياطيات تعتبر من المعايير المهمة في تقييم اقتصاديات الدول وتعطي ثقة كبيرة للأطراف الخارجية من دول ومستثمرين عن البلد، والتي استطاعت اليمن بموجبة وتعزيز الثقة.

أما فيما يتعلق بالقروض الخارجية لليمن فقد انخفضت من 11,4 مليار دولار عام 1996 إلى 5,4 مليار دولار عام 2006م ويرجع السبب إلى دخول اليمن في مفاوضات مع أعضاء نادي باريس ونتج عنها شطب أكثر من 80% من الديون الخاصة بروسيا وإعادة جدولة 20% من ديون أعضاء نادي باريس الآخرين خلال ثلاث جولات في الأعوام 1996م و 1997م و 2001م، واستطاع البنك المركزي إدارة المديونية الخارجية بكل كفاءة واقتدار وباستخدامة أحدث الأنظمة والتكنولوجيا الموجودة في العالم فهو يستخدم نظام الـ DMFAS، لذا فقد حصلت اليمن على إشادة من منظمات وهيئات دولية على رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأصبحت اليمن من أوائل الدول الوفاء بالتزاماتها كما لا توجد أي متأخرات عليها. وحقق البنك المركزي خلال الفترة من 1998م إلى 2006م صافي أرباح بلغت 158.2 مليار ريال وبمتوسط سنوي 17.6 مليار ريال تم تحويلها إلى حساب الحكومة العام.

كما اتخذ البنك المركزي مجموعة من الإجراءات لإصلاح القطاع المصرفي ومن أهمها زيادة رؤوس الأموال، وتطبيق المعايير الدولية (بازل Iو بازل II)، وحجز مخصصات كافية للديون المتعثرة، ووضع معالجات مناسبة لتحصيل الديون المتعثرة، ودعم وتشجيع القطاع المصرفي لاستخدام نظم وآليات حديثة، فكانت لهذه السياسات النجاح الاثر الكبير، حيث ارتفعت الميزانية المجمعة للبنوك من 212 مليار ريال عام 1998م إلى 1040 مليار ريال عام 2006م وبمعدل نمو سنوي 47% , كما تضاعفت أرصدة الودائع لدى القطاع المصرفي من 116,9 مليار ريال عام 1998م إلى 851 مليار ريال عام 2006م وبمعدل نمو سنوي 78%، في حين نمت القروض و التسهيلات المقدمة من البنوك إلى القطاعات الاقتصادية المختلفة من 54 مليار ريال عام 1998 م إلى 266 مليار ريال عام 2006 م وبمعدل نمو سنوي 49%. كما توسع القطاع المصرفي ليصل إلى 17 بنك (12 بنك تجاري - 3 بنوك إسلامية – بنكين متخصصين) مع انتشار 205 فرعاً لها في مختلف محافظات ومدن الجمهورية، في حين لم تزيد عن 12 بنك في عام 1998م، والجدير بالذكر بأن القطاع المصرفي سيشهد توسع أكبر نظراً لتحفيز البنك المركزي البنوك العاملة على المنافسة وتقديم أفضل الخدمات المصرفية ودخول بنوك عربية ودولية جديدة. وفي جانب آخر تطور قطاع الصرافة فقد بلغت عدد محلات وشركات الصرافة 463 محل وشركة صرافة في عام 2006م في حين لم تزيد عن 210 في عام 1999م.

والمتتبع لسياسات البنك المركزي اليمني يرى بأنه يستخدم أدواته لتحقيق الاستقرار بكل سلاسة واقتدار.

وخلاصة القول أن البنك المركزي اليمني استطاع الخروج بالسياسة النقدية والقطاع المصرفي إلى بر الأمان ووضع الأسس التي تمكنه من الاندماج في فضاء العولمة، ومواجهة التحديات، كما ندعو القائمين على السياسة النقدية العمل المستمر لتحقيق نجاحات أكثر وأكبر.

هناك تعليق واحد: